الحمد لله
ولي من اتقاه، من توكل عليه كفاه، ومن دعاه أجابه، ومن سأله أعطاه، ومن خافه قلة
خطاياه. أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا معبود
بحقٍ سواه، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله الذي اصطفاه واجتباه صلى الله وسلم
وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن نصره وآواه واقتفى أثره واتبع هداه.
أخي المسلم:
عاشر بمعروفٍ فإنك راحلُ |
واترك قلوب الناس نحوك صافية |
اللهم
عافنا واعف عنا واختم لنا بالباقيات الصالحات أعمارنا يارب العالمين.
* يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
اللَّهَ وقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ويَغْفِرْ لَكُمْ
ذُنُوبَكُمْ ومَنْ يُطِعِ اللَّهَ ورَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً & [الأحزاب:
70-71].
عباد
الله:
ما زلنا وإياكم
نعيش مع لقمان الحكيم ووصاياه المباركة تلك الوصايا الإيمانية التربوية.
تلك
الوصايا التي ترسم لنا منهجا في التربية لأبنائنا وبناتنا.
فلا إله إلا الله ما أعظمها من وصايا! ولا إله إلا الله ما
أحسنها من نصائح.
بدأ
بالعقيدة﴿
يَا
بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ ﴾،وثنى ببر الوالدين ﴿ ووَصَّيْنَا
الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ ﴾ ثم جاءت
الوصية بصحبة أهل الخير والصلاح، * واتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ &،ثم
التذكير بالآخرة والوقوف بين يدي الله، *ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا
كُنتُمْ تَعْمَلُونَ &، ثم
يغرس مراقبة الله وعظمة الله في القلوب، ﴿ يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ
تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي
السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ
﴾،ثم أوصاه بالعبادة وعمودها الصلاة، ﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ
الصَّلاةَ ﴾.ثم أوصاه بالدعوة إلى الله وإصلاح من حوله، ﴿ وأْمُرْ
بِالْمَعْرُوفِ وانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾،ثم أعطاه مفتاح
من مفاتيح السعادة، ﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ ﴾[لقمان:17]،
ثم ختم وصيته بالوصية بحُسن الخلق والآداب والسلوك.
فما قيمة العقيدة بلا عبادة، وما قيمة العبادة بلا خلق وأدب؟
قال تعالى
على لسان لقمان يوصي ابنه: ﴿وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ ولا
تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ
﴾،
لا تَمِل برأسك عُجباً وفخراً وكبراً لا تصعر خدك استعلاء وغطرسةً واحتقاراً
للآخرين لا تصعر خدك للناس، والصعر داء يصيب الجمل في عنقه فيصبح يمشي لاوياً رأسه.
عباد الله:
ينسى الإنسان في بعض الأحيان حقيقة نفسه، ينسى أنه خُلق من طين، وأن أصله من سُلالة
من ماءٍ مهين، وينسى أنه وإن حسُن منظره، أنه يحمل العذرة في باطنه، وينسى أنه
مهما طال جسده وعظم، فإنه لا يستطيع أن يخرق الأرض، ولن يبلغ الجبال طولاً، وأن
الشوكة تدميه، والذبابة تؤذيه …يا مدعي الكبر
ينسى بعض
الناس هذا كله، فيتعاظمون في أنفسهم، ويأخذهم الكبر بأجسادهم وألوانهم وامتداد
قاماتهم وجمال ثيابهم وعلمهم، فإذا هم يمشون في الأرض مشية الخيلاء، وينظرون إلى
الناس نظرة احتقار وازدراء، ويظنون أنفسهم خير الناس وهم أراذلهم.
ومن تواضع لله رفعه، ومن تكبر على الله وضعه، وجزاء
المتكبر أن يحشر يوم القيامة في صورة الذر؛ يطأه الناس بأقدامهم؛ لأنه تضخم في
الدنيا فصغره الله وحجمه يوم العرض الأكبر.
أحبتي الكرام: ما أخوف ما جاء في حق المتكبرين من الوعيد،
كقوله تعالى: ﴿
ويَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وجُوهُهُمْ
مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ ﴾[الزمر:60]،
ويقول ‰:
©لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال
ذرة من كبر® [رواه مسلم]،وقال ‰: ©تحاجت النار والجنة، فقالت النار: أُوثرت بالمتكبرين والمتجبرين.. ®[ رواه البخاري بنحوه
(أنظر صحيح الجامع الصغير 2919)].
عباد الله:من صفات
المتكبر أنه لا يجود بالسلام، بل دائماً ينتظر منك أن تسلم عليه؛ لأنه يرى نفسه في
رتبة عالية. ومن صفات المتكبر: أنه غضبان دائماً بدون سبب.
وجوههم من سواد الكبر عابسة |
كأنما أوردوا غصباً إلى النار |
ومن
صفات المتكبر أنه يستخدم دائماً: أنا وفعلت وقلت وراجعت ودخلت وخرجت، ويترجم لنفسه
في المجالس دائماً، فيكون أمقت الناس عند الله (¸).
وصدق الله
القائل: ﴿فَلا
تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اتَّقَى﴾ [النجم:32]
﴿ ولا
تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ ولا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً ﴾.
أخبرنا
النبي -^- أن الكبر ليس أن يكون ثوبك جميلا، ونعلك حسنا، فالله جميل يحب الجمال؛ ولكن
الكبر هو « بطر الحق وغمط
الناس®،
الكبر، بطر الحق أن ترد الحق، أن ترفض الحق،لأنه يخالف هواك ـ و غمط الناس أي
احتقارهم والسخرية منهم، هذا هو الكبر.
ثم تأتي وصية
أخرى﴿وَاقْصِدْ
فِي مَشْيِكَ﴾ يعني:
امش قصداً إلى حاجتك وبتؤدة وسكينة ﴿ وعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ
يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً ﴾.
القصد هو
الاعتدال، لا تمش في الأرض، ذليلاً، خانعاً، ولا تمش مفتخراً، مختالاً متكبراً،﴿إِنَّ
اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾
المعجب بنفسه الفخور على غيره.
﴿وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ
﴾
لا ترفع صوتك فوق اللازم، فهذا هو أدب القرآن، حتى في تنظيم الصوت، والمسلم عاقل
رشيد في ألفاظه، ﴿ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ
﴾.
شبّه صوت
المرتفع بنهيق الحمار، فقد روى الشيخان عن أبي هريرة -ا-قال:
قال النبي -^-: ©اذا
سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله، فإنها رأت ملكاً، وذا سمعتم نهيق الحمار فتعوذوا
بالله من الشيطان فإنه رأى شيطاناً®،
الاعتدال في الصوت أمرٌ ينبغي أن يتحلى به المؤمن حتى في الصلاة وفي التعبد
يُعلِّمنا الحق سبحانه: ﴿ ولاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ ولاَ
تُخَافِتْ بِهَا وابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً ﴾[الإسراء:110].
ونهينا عن
رفع الصوت عند رسول الله وعند زيارة مسجده وقبره، ﴿ يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ
ولا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ
أَعْمَالُكُمْ وأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ ﴾ [الحجرات:2]فلا إله
إلا الله ما أعظمها من وصايا!
إلى هنا عباد الله
نكون أنهينا وصايا لقمان في سورة لقمان؛ لكن لقمان له وصايا عجيبة مباركة متناثرة،
ومبثوثة في شروح السنة النبوية، وفي كتب السلف؛ سنعيش وإياكم مع بعضها.
إنها وصايا يرسلها لقمان × لابنه، وهي لنا ولا بناءنا ولكل
مسلم..
قال لقمان × لابنه: «يا بني إن الدنيا بحر عميق
وقد غرق فيه ناسٌ كثير ».
صدق لقمان فحب
الدنيا رأس كل خطيئة، ألا إنما الدنيا ساعة فاجعلها طاعة، و النفس طماعة عودها
القناعة، دنيا لهو ولعب كم جرى خلفها أُناس وماتوا وتركوها.
لا تركنن إلى الدنيا وما فيها |
فالموت لا شك يفنينا ويفنيها |
ما النجاة يا لقمان
من هذا البحر العميق؟ اسمع إليه وهو يوصي ابنه..قال
لقمان: «يا بني إن الدنيا بحر عميق وقد غرق فيه ناسٌ كثير، فلتكن سفينتك فيه تقوى الله (¸)، وحشوها الإيمان بالله تعالى، وشراعها التوكل على الله
تعالى، لعلك تنجو ».
يا بني: «قد ذُقت
المرارة كلها، فليس شيء أمر من الفقر»؛نعم صدق لقمان × إنه الفقر أخو الكفر استعاذ منه
النبي- -^- كم انتشرت المعاصي والمنكرات عند ضعاف الإيمان والسبب الفقر، بل كم باعت
امرأة عرضها لفقرها وقبل ذلك لعدم خوفها من ربها.
ثم يقول لقمان يا
بني: ©حملت الحمل الثقيل، فليس شيء أثقل من جار السوء؛ ولو أن
الكلام من فضة، لكان السكوت من ذهب®.
©يا بني لا تمارين حكيماً، ولا تجادلن لجوجاً، ولا تعاشرن
ظلوماً، ولا تصاحبنّ متهماً®.
يقول لقمان: لا تمارين حكيما، والمراء هو كثرة
الجدل والخصومة والرسول -^-:«إن المراء لا يأتي بخير»، وقال -^-«أنا زعيم
ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محِقًّا،.....»[أخرجه أبو داود في
كتاب الأدب، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2648)].
ولا تصاحبن متهما،
نعم فإنه يقاس المرء بالمرء إذا ما المرء ماشاه، وللقلب على القلب أشياء وأشباه.
يا بني، استغن
بالكسب الحلال عن الفقر، فإنه ما افتقر أحد قط إلا أصابه ثلاث خصال: رقة في دينه،
وضعف في عقله، وذهاب مروءته، وأعظم من هذه الثلاث: استخفاف الناس به.
يا بني لا تُذهب
ماء وجهك بالمسألة ولا تشف غيظك بفضيحتك واعرف قدرك تنفعك معيشتك.
نعم لا تذهب ماء وجهك
بالمسألة، فقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر ب عن النبي -^- قال: «ما يزال
الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة لحم»[رواه البخاري].
ولا تشف غيظك
بفضيحتك أي اكظم غيظك؛ لأنك اذا غضبت أصبحت كالمجنون، واعرف قدرك تنفعك معيشتك اقنع
بما أتاك الله ولا تنظر إلى ما عند الآخرين فتسخط على قضاء الله.
وعن سفيان ابن
عيينة قـال: قال لقمان: خير الناس: الحيي، الغني؛ قيل: الغنى في المال؟ قال: لا، ولكن:
الذي إذا اُحتيج إليه نفع، وإذا استغني عنه قنع؛ قيل: فمن شر الناس؟ قال: من لا
يبالي أن يراه الناس مسيئاً.
وكان يوصي ابنه ويقول:
©يا بني واصل أقرباءك وأكرم إخوانك ».
:«يا بني! احذر
الكذب فإنه شهي كلحم العصفور، من أكل شيئا منه لم يصبر عنه».
يا بني: إذا أخطأت
خطيئة فأعط الصدقة. نعم وصدق لان الصدقة تطفي غضب الرب سبحانه
: يا بني، لا تطلب
العلم لتباهي به العلماء، وتماري به السفهاء، وترائي به في المجالس، ولا تدع العلم
زهادةً فيه ورغبة في الجهالة، وإذا رأيت قوماً يذكرون الله، فاجلس معهم، فإن تك
عالماً ينفعك علمك، وإن تك جاهلاً يعلموك، ولعل الله أن يطلع عليهم برحمة، فيصـيبك
بها معهم؛ وإذا رأيت قوماً لا يذكرون الله، فلا تجلس معهم، فإنك: إن تك عالماً، لا
ينفعك علمك؛ وإن تك جاهلاً، يزيدوك جهلاً؛ ولعل الله أن يطلع عليهم بسخطه، فيصيبك
بها معهم.
«يا بني إذا افتخر
الناس بحسن كلامهم فافتخر أنت بحسن صمتك».
ومن وصاياه: «يا بني اتخذ طاعة الله
تجارة تأتك الأرباح من غير بضاعة».
«يا بني!
إياك وكثرة النوم والكسل والضجر، فإنك إذا كسلت لم تؤد حقا، وإذا ضجرت لم تصبر على
حق».
وقال: «يا بني عليك
بمجالس العلماء، واسمع كلام الحكماء؛ فإن الله يحيي القلب الميت بالحكمة كما يحيي
الأرض بوابل المطر».
يا بني: لتكن كلمتك
طيبة، وليكن وجهك بسطاً، تكن أحب إلى الناس ممن يعطيهم العطاء.
وفي ذات مرة قال
ابن لقمان الحكيم لأبيه: يا أبت أي الخصال من الإنسان خير؟ قال: الدين، قال: فإذا
كانت اثنتين؟ قال: الدين والمال. قال: فإذا كانت ثلاثاً؟ قال: الدين والمال والحياء،
قال: فإذا كانت أربعاً؟ قال: الدين والمال والحياء وحسن الخلق، قال: فإذا كانت
خمساً؟ قال: الدين والمال والحياء وحسن الخلق والسخاء، قال: فإذا كانت ستاً؟ قال:
يا بني إذا اجتمعت فيه الخمس خصال فهو نقي تقي ولله ولي ومن الشيطان بريء.
وسأله رجل أي شيء
خيراً؟ قال: صبر لا يتبعه أذى، قال: فأي الناس خيراً؟ قال: الذي يرضى بما أوتي،
قال: فأي الناس أعلم؟ قال: الذي يأخذ من علم الناس إلى علمه، قيل: فمن خير الكنز
من المال أو من العلم؟ قال: سبحان الله بل المؤمن العالم الذي إن اُبتغى عنده
خيراً وجد، وان لم يكن عنده كف نفسه وبحسب المؤمن أن يكف نفسه.
ويروى عن لقمان أنه
قال لابنه: «يا بنى عوّد لسانك اللهم اغفر لي. فإن لله ساعات لا يرد فيها سائلا».
عباد الله: بعد هذه
الوصايا المباركة نسأل الله أن يُصلح ذرياتنا، رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ
أَزْوَاجِنَا وذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ واجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً.
هذا وصلوا - عباد الله: - على رسول الهدى فقد
أمركم الله بذلك في كتابه فقال:
] إِنَّ اللَّهَ ومَلائِكَتَهُ
يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وسَلِّمُوا
تَسْلِيمًا [[الأحزاب:
56]. اللهم صلِّ وسلّم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة
الراشدين...