السجود
بستان العابدين
الحمد
لله الجواد الكريم الشكور الحليم، أسبغ على عباده النعم ودفع عنهم شدائد النقم وهو
البر الرحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الفضل العظيم، والخير
العميم، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المصطفى الكريم صلى الله عليه وعلى آله
وأصحابه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
وبعد....
وقفتنا في هذه الرسالة من رسائل
الإيمان مع عبادة عظيمة جليلة، إنها السجود!!
السجود
هو انطراح للجبار، وتذلل للقهار، وتمريغ للأنف، وتعفير للوجه، وانطلاق
من أسْر الدنيا، وهروب من قيود الطاغوت، وتجرد من أوسمة العظمة، وتخلّ عن رُتَب الفخامة،
وألقاب الزعامة.
السجود
غاية التواضع والعبودية لله تعالى، ففيه تمكين أعز أعضاء الإنسان وأعلاها
وهو وجهه من التراب الذي يُداس ويمتهن.
السجود أقصى درجات العبودية، وأجل مظاهر التذلل،
وأصدق دلائل الإذعان، وأعذب مناظر الخشوع، وأفضل أثواب الافتقار.
السجود روضة خاصة، إذا دخلها القلب لا يخرج منها أبدًا، ففيها
من اللذة والانشراح ما لا يُوصَف، ولا يحيط به قلم، ورغم صغر موضع السجود، إلا إنه
للروح أوسع من الدنيا وما فيها. جاء عند الإمام البيهقي رحمه
الله بسندٍ صحيح عن أبي الدرداء tأنه قال: «لولا ثلاثٌ ما أحببْتُ البقاءَ
في الدنيا: ساعةُ ظمأٍ في الهواجر ـ يعني: صيامٌ في شدة الحرـ، والسجودُ في الليل،
ومجالسة أقوامٍ ـ أي: أصدقاءٍ صالحين ـ ينتقون أَطَايبَ الكلام كما ينتقي أحدُهُمْ
أطايبَ التَّمْر».
وقال مسروق رحمه الله: « ما من الدنيا
شيء آسى عليه إلا السجود لله تعالى» [نزهة الفضلاء تهذيب سير أعلام
النبلاء 1/ 333 ]
السجود أقرب ما يكون العبد من ربه وهو فيه يتنعَّم، تُسكَب فيه العبرات، وتُزاح الآهات، تُطرح الحاجات، تُجاب
الدعوات، ترفرف الأفئدة نشوةً وفرحًا بما تنعم به في مِثل هذه اللحظات.
السجود فيه لقاء من نوع خاص لا يَحضُره أحد ولا
يُمنع منه أحد، ولا يدري به أحد، فهو بين العبد والرب، لقاءٌ شفاف بعيد عن الدنيا
ومن فيها وما فيها، تختلط فيه الدموع بالدعوات، والتملق بالثناء، والخوف بالرجاء،
والسرور بالبكاء.
السجود عنوان عبودية، ورمز خضوع، وموقف عزٍّ،
ومدرسة اعتراف، فسبعة أعضاء تسجد لله وتحمل البدن، كلها مُنطرِحة غير متأفِّفة ولا
مستكبِرة، بل راغبة مُحبَّة طالبة للعز والرفعة.
السجود
إنه الاعتراف في ذُلٍّ بعظمة الخالق وجبروته وكبريائه، إنه طريق معبَّد للمرور إلى الجنة إن شاء الله. . .
لأهمية السجود
فقد ذُكرت ألفاظ السجود في كتاب الله في اثنين وتسعين موضعاً.
أهمية السجود
وثماره وآثاره
1- السجود رفعة
درجات:
اسجد ففي كلِّ سجدة تسجدها مطمئنًّا مؤمنًا
ترتفع درجة، وأقرب ما يكون القلب من الرب إذا سجد، فلا تبخل على نفسك، ولا تعجل في
سجودك، فأطِل؛ فاللذة تأتي كلما طال بقاؤك ساجدًا حتى إنك تود ألا ترفع.
ورد عند مسلم من حديث
ثوبان رضي الله عنه أنه جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له أخبرني عن
عمل يدخلني الجنة؟ فسكت النبي صلى الله
عليه وسلم فأعاد الرجل قوله ثانية فسكت عليه الصلاة والسلام، فأعاد الرجل قوله
ثالثة فسكت ثم قال له سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: « عليك بالسجود فأنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة
وحط عنك بها خطيئة »[ مسلم (شرح النووي ) 4/274، كتاب
الصلاة، باب فضل السجود والحث عليه، حديث رقم (488). ]، وفي رواية «مَن سجد لله سجدةً، كتب الله له بها حسنةً،
وحطَّ بها عنه خطيئةً، ورفَع له بها درجةً» [صحيح الترغيب والترهيب].
الله
أكبر ما أعظمه من أجر، فتأمل كم أنت مفرط في حق نفسك إذ لم تُكثر من السجود لله
سبحانه وتعالى.
2- السجود
وقاية من النار:
السجود من أعظم أسباب الوقاية من عذاب النار
وشاهد ذلك حديث ربيعه بن كعب رضي الله عنه لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم مرافقته في
الجنة فكان جواب المصطفى عليه الصلاة والسلام له أنه قال: « فأعني على نفسك بكثرة السجود » [
مسلم (شرح النووي ) 4/274، كتاب الصلاة، باب فضل السجود والحث عليه، حديث رقم (
489). ]، وهذا يدل
على أن السجود من أعظم المؤهلات لدخول الجنة وحصول رضوان الله تعالى.
3- السجود
تفريج الهم وتنفيس الكرب:
السجود فيه
تفريج الهم، وتنفيس الكرب وحصول انشراح الصدر، وثبوت الإيمان في القلب، فالمسلم
عندما تتكالب عليه الدنيا بمشكلاتها ومعضلاتها، وتعترضه المحن وتحل به الابتلاءات
يجد في العبادة والسجود عوناً على ذلك ومخرجاً منه، ومما يدل على ذلك قوله تعالى: ﴿ كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ﴾ [العلق:19] أي اقترب
من الله وتوكل عليه بطاعته والسجود إليه، وهو توجيه بالصد عن أعراض المعرضين
وتكذيبهم والاستعانة على مواجهتهم بالطاعة والسجود، وتأمل كذلك قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ
نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنْ
السَّاجِدِينَ﴾[الحجر: 97-98]، ما يعني أن السجود علاج لضيق
الصدور.وهذا المعنى مهم بالنسبة للمؤمن وللدعاة على وجه
الخصوص لانهم يُلاقون الإعراض ويتعرضون للإيذاء، فليعلموا أنه لا يثبتهم ولا يشرح
صدورهم ولا يزيل غمهم وكربهم إلا هذه العبادة وهذا السجود حينما ينطرح الواحد بين
يدي الله فيُلقي بأمره وهمه بين يدي الله، فيكون السجود أُنساً له وكأن لسان حاله يقول: « إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي » [الطبراني في
الكبير عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، ورمز المناوي لحسنه فيض القدير 2/119. ].
4- الساجدين
غُراً محجلين:
من أعظم آثار و بركات و فضائل الساجدين المصلين أنهم
يُبعثون يوم القيامة غُراً محجلين من آثار السجود
كما ورد في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم، أي منورين وجوههم مضيئة مشرقة من
آثار السجود لما سجدوا لله نوّر الله وجوههم وبيّضها يوم القيامة: ﴿يَوْمَ
تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾[آل عمران:106] .
5- تذكر البداية والنهاية:
السجود فيه التصاق بالأرض
يتذكر به العبد البداية والنهاية؛ لأن الإنسان في سجوده يمرّغ جبهته بالتراب
فيتذكر أن أصل خلقته من التراب وأنه عاد إلى هذا التراب، وأن الله سبحانه وتعالى
يبعثه يوم القيامة للنشر والحساب وهذا المعنى يتجسد بأبلغ ما يكون في السجود،
والأرض لن تنس جباه الساجدين.
6- صارف عن
الدنيا:
السجود بهيئته صارف عن رؤية الدنيا وفتنتها،
فالإنسان حينما يسجد يكون نظره في سجوده إلى هذه القطعة والرقعة الصغيرة في الأرض
لا يرى من الدنيا سواها فيتذكر مقدار الدنيا بالنسبة للآخرة، ففي أثناء قيام العبد في الصلاة قد يلفت نظره شيء من
الدنيا أو يرى الأشخاص أو الذوات، وكذا في ركوعه قد يقع بعض ذلك، أما في سجوده فلا
يحصل شيء من هذا أبداً فلا يرى شيئاً من الدنيا، ولا يبصر أحداً من أهلها، فكأنما
انصرف عن كل شيء وعن كل بشر وتجرد من كل نفع ومن كل ضر وتبرأ من كل حول ومن كل طول
ولم يبق له نظر إلا إلى الله سبحانه وتعالى به يعلق قلبه، وبذكره يرطب لسانه، ومنه
يرجوا الإعانة وله يخلص النية، ولذا كان السجود موضع قرب من الله لأن فيه كمالاً
في التجرد لله.
7- مشاركة كل
الاعضاء:
السجود فيه مشاركة لمعظم الأعضاء، إذ أن
الإنسان في وقوفه أو في ركوعه يستخدم بعض الأعضاء ولكن في سجوده يكون على هذه
الأرض بيديه وقدميه وركبتيه وجبهته وأنفه فهذا كله دليل على أنه كله لله سبحانه
وتعالى، وأن كل حواسه ينبغي أن تكون لله
عز وجل وفق أمر الله، فلا ينبغي أن يسجد ثم ينظر إلى المحرمات بعينه، أو يعتدي على
المحرمات بيديه، أو يمشي إلى المنكرات برجليه، وهذا المعنى يتحقق للمتأمل في
السجود ومعانيه.
8- النار لا
تآكل آثار السجود:
حرّم
الله عز وجل على النار أن تأكل آثار السجود؛ لما روى أبو هريرة رضي الله عنه في
حديث طويل وفيه قوله صلى الله عليه وسلم : « .....حتى
إذا أراد الله رحمة من أراد من أهل النار، أمر الله الملائكة أن يخرجوا من كان
يعبد الله، فيخرجونهم، ويعرفونهم بآثار السجود، وحرم الله على النار أن تأكل أثر
السجود. فيخرجون من النار، فكل ابن آدم تأكله النار إلا أثر السجود. .
. »[صحيح الجامع، رقم الحديث 7033]..
9- مراغمة
للشيطان:
السجود
يفرق ما بين الإنسان والشيطان، إذ هو في الحقيقة مراغمة لهذا الشيطان، ودحرله، لأن
الشيطان أُمر بالسجود فأبى، وكان ذلك سبب حلول لعنة الله عليه ثم يكون له العقاب
في الآخرة،.قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد، اعتزل الشيطان يبكي، يقول: يا
ويله. أُمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأُمرت بالسجود فأبيت فلي النار » [صحيح مسلم
الإيمان (81)، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1052)، مسند أحمد بن حنبل
(2/443). ]، وأما الذي يسجد استجابة لأمر الله سبحانه وتعالى فإنه حينئذ يكون
متحققاً بالعبودية معلناً مراغمته وخصومته للشيطان، ولما كان عقاب إبليس عند
امتناعه من السجود طرد وإبعاد من رحمة الله، فعندما تسجد لله يكون العكس تعرُّض
لرحمة الله واقتراب.
10- موضع الدعاء
الأقرب:
السجود هو موضع الدعاء الأكبر والأعظم في الصلاة لأنه
هو مقام القرب، فإذا كنت قريباً كنت مؤهلاً أن تقدم دعاءً ذليلاً، وأنت ملتصقاً في
الأرض، ذاكراً لفضل الله عليك بالإبتداء ومتذكراً للفناء والانتهاء، كل هذه
المعاني تجعلك في مقام وهيئة يحبها الله ويرضاها؛ إذ هو جل وعلا يحب من عباده
المبالغة في العبودية والذلة والتضرع والسؤال له سبحانه وتعالى، فإذا سجدت فأخبره
بأسرارك ولا تُسمع من بجوارك، وأروع ما في السجود أنك تهمس في أُذن الأرض فيسمعك
من في السماء.
سجود الدنيا وسجود الآخرة
العبد المؤمن دُعي للسجود في الدنيا فسجد
والكافرون دُعوا فأبوا أن يسجدوا، ويوم القيامة يتمنون السجود مع إرادتهم له
ورغبتهم فيه لأن ظهورهم تصير طبقاً واحداً
فلا يستطيع الواحد منهم أن يحني ظهره ليسجد، وهذا هو ما ذكره أهل التفسير عند بيان
معنى قوله تعالى: ﴿ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ
وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ ﴾[القلم:42]، فلا يستطيعون
السجود، إما لأن وقته قد فات، وإما لأنهم كما وصفهم في موضع آخر يكونون: ﴿مُهْطِعِينَ
مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ﴾
[في
ظلال القرآن 6/3667 ].قال صلى الله عليه وسلم: « يكشف ربنا عن ساقه
فيسجد له كل مؤمن ومؤمنه ويبقى من كان يسجد في الدنيا رئاء وسمعه فيذهب ليسجد
فيعود ظهره طبقاً واحداً » [البخاري (فتح الباري ) 8/531، كتاب
التفسير، سورة (ن و القلم )، باب (يوم يكشف عن ساق )، حديث رقم (4919)]. فإذا
تذكر العبد المؤمن هذا المقام أيضاً فإنه يرى أن مسابقته للسجود نجاة وخلاص من هذا
المقام العصيب وذلك الموقف الرهيب و تقرب لله العظيم لينجيه من العذاب الأليم.
سجود القلب
والقرب
سُئل أحد العارفين:
أيسجدُ القلب؟
قال: نعم، سجدة
لا يرفعُ رأسه منها أبداً. . ! !والسجود
يكون فيه المرء أقربَ ما يكون من ربه، كما في الحديث الصحيح "أقربُ
ما يكونُ العبدُ إلى الله وهو ساجد".وصحَّ في الحديث
أيضًا قوله صلى الله عليه وسلم: "أقربُ ما
يكون الربُّ من العبدِ في جوفِ الليلِ الآخِر". فالعبودية
مراتب، وبمقدار تحقق الذلة تتحقق أهلية الإنسان لوصف العبودية واسم العبد فبقدر ما
يذل وبقدر ما تكون صورة الذل لله عظيمة وكبيرة بقدر ما يتحقق فيه معنى العبودية
لله سبحانه وتعالى، فإذا عرفنا أن العبودية هي أعلى مراتب هذا الإنسان المؤمن في
هذه الحياة ظهر لنا سر اختصاص السجود بالقرب.
الكون كله يسجد
لله
حينما
يتأمل الإنسان في هذا السجود فإنه يجد أن
الكون كله ساجد لله بمعنى ذلته وخضوعه لله سبحانه وتعالى وانقياده وصيرورته وفق
حكم الله، ، ثم هو ساجد بالمعنى الحقيقي لأن الله سبحانه وتعالى قال: ﴿أَلَمْ
تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ
فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ
وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ ﴾[الحج:18] ، فيتأمل
العبد أنه حينما يسجد لله عز وجل يكون عبارة عن جزء من هذا الكون المسبح بحمد الله
الساجد لله سبحانه وتعالى
1- السجود رفعة
درجات:
اسجد ففي كلِّ سجدة تسجدها مطمئنًّا مؤمنًا
ترتفع درجة، وأقرب ما يكون القلب من الرب إذا سجد، فلا تبخل على نفسك، ولا تعجل في
سجودك، فأطِل؛ فاللذة تأتي كلما طال بقاؤك ساجدًا حتى إنك تود ألا ترفع.
2- السجود
وقاية من النار:
3- السجود
تفريج الهم وتنفيس الكرب:
4- الساجدين
غُراً محجلين:
من أعظم آثار و بركات و فضائل الساجدين المصلين أنهم
يُبعثون يوم القيامة غُراً محجلين من آثار السجود
كما ورد في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم، أي منورين وجوههم مضيئة مشرقة من
آثار السجود لما سجدوا لله نوّر الله وجوههم وبيّضها يوم القيامة: ﴿يَوْمَ
تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾[آل عمران:106] .
5- تذكر البداية والنهاية:
السجود فيه التصاق بالأرض
يتذكر به العبد البداية والنهاية؛ لأن الإنسان في سجوده يمرّغ جبهته بالتراب
فيتذكر أن أصل خلقته من التراب وأنه عاد إلى هذا التراب، وأن الله سبحانه وتعالى
يبعثه يوم القيامة للنشر والحساب وهذا المعنى يتجسد بأبلغ ما يكون في السجود،
والأرض لن تنس جباه الساجدين.
6- صارف عن
الدنيا:
السجود بهيئته صارف عن رؤية الدنيا وفتنتها،
فالإنسان حينما يسجد يكون نظره في سجوده إلى هذه القطعة والرقعة الصغيرة في الأرض
لا يرى من الدنيا سواها فيتذكر مقدار الدنيا بالنسبة للآخرة، ففي أثناء قيام العبد في الصلاة قد يلفت نظره شيء من
الدنيا أو يرى الأشخاص أو الذوات، وكذا في ركوعه قد يقع بعض ذلك، أما في سجوده فلا
يحصل شيء من هذا أبداً فلا يرى شيئاً من الدنيا، ولا يبصر أحداً من أهلها، فكأنما
انصرف عن كل شيء وعن كل بشر وتجرد من كل نفع ومن كل ضر وتبرأ من كل حول ومن كل طول
ولم يبق له نظر إلا إلى الله سبحانه وتعالى به يعلق قلبه، وبذكره يرطب لسانه، ومنه
يرجوا الإعانة وله يخلص النية، ولذا كان السجود موضع قرب من الله لأن فيه كمالاً
في التجرد لله.
7- مشاركة كل
الاعضاء:
السجود فيه مشاركة لمعظم الأعضاء، إذ أن
الإنسان في وقوفه أو في ركوعه يستخدم بعض الأعضاء ولكن في سجوده يكون على هذه
الأرض بيديه وقدميه وركبتيه وجبهته وأنفه فهذا كله دليل على أنه كله لله سبحانه
وتعالى، وأن كل حواسه ينبغي أن تكون لله
عز وجل وفق أمر الله، فلا ينبغي أن يسجد ثم ينظر إلى المحرمات بعينه، أو يعتدي على
المحرمات بيديه، أو يمشي إلى المنكرات برجليه، وهذا المعنى يتحقق للمتأمل في
السجود ومعانيه.
8- النار لا
تآكل آثار السجود:
حرّم
الله عز وجل على النار أن تأكل آثار السجود؛ لما روى أبو هريرة رضي الله عنه في
حديث طويل وفيه قوله صلى الله عليه وسلم : « .....حتى
إذا أراد الله رحمة من أراد من أهل النار، أمر الله الملائكة أن يخرجوا من كان
يعبد الله، فيخرجونهم، ويعرفونهم بآثار السجود، وحرم الله على النار أن تأكل أثر
السجود. فيخرجون من النار، فكل ابن آدم تأكله النار إلا أثر السجود. .
. »[صحيح الجامع، رقم الحديث 7033]..
9- مراغمة
للشيطان:
السجود
يفرق ما بين الإنسان والشيطان، إذ هو في الحقيقة مراغمة لهذا الشيطان، ودحرله، لأن
الشيطان أُمر بالسجود فأبى، وكان ذلك سبب حلول لعنة الله عليه ثم يكون له العقاب
في الآخرة،.قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد، اعتزل الشيطان يبكي، يقول: يا
ويله. أُمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأُمرت بالسجود فأبيت فلي النار » [صحيح مسلم
الإيمان (81)، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1052)، مسند أحمد بن حنبل
(2/443). ]، وأما الذي يسجد استجابة لأمر الله سبحانه وتعالى فإنه حينئذ يكون
متحققاً بالعبودية معلناً مراغمته وخصومته للشيطان، ولما كان عقاب إبليس عند
امتناعه من السجود طرد وإبعاد من رحمة الله، فعندما تسجد لله يكون العكس تعرُّض
لرحمة الله واقتراب.
10- موضع الدعاء
الأقرب:
السجود هو موضع الدعاء الأكبر والأعظم في الصلاة لأنه
هو مقام القرب، فإذا كنت قريباً كنت مؤهلاً أن تقدم دعاءً ذليلاً، وأنت ملتصقاً في
الأرض، ذاكراً لفضل الله عليك بالإبتداء ومتذكراً للفناء والانتهاء، كل هذه
المعاني تجعلك في مقام وهيئة يحبها الله ويرضاها؛ إذ هو جل وعلا يحب من عباده
المبالغة في العبودية والذلة والتضرع والسؤال له سبحانه وتعالى، فإذا سجدت فأخبره
بأسرارك ولا تُسمع من بجوارك، وأروع ما في السجود أنك تهمس في أُذن الأرض فيسمعك
من في السماء.
